يومٌ بخمسمائة عام… الأشرف قايتباي وكولومبوس وروجر ووترز في بروجرام واحد

ظهيرة يوم خريفي دافئ، أقف في شرفة المكتب المطلّة من الدور الثامن على شوارع وسط البلد. أنا في الثالثة والعشرين ولا زلت طالبًا في  الجامعة، أعيدُ السنة الثالثة وأعمل في هذا المكتب لأحصل على نفقاتي.  هي دار جديدة لنشر كتب الأطفال، هذا تخصّصها المفترض، ولكن لإدارة عجلة الاقتصاد نطبعُ كُتيبات الدعاية لشركات السياحة حتى يشتد ساعدنا الانتاجي  فنشرع في النشر الحقيقي. أتيتُ أصلًا لأعمل مُترجمًا ومحررًّا لكتب الأطفال المزمع نشرها، وبالفعل بدأنا في تجهيز موسوعة لأعلام الفنانين والأدباء العالميين لعمر الفتيان، ولكننا انخرطنا في الأنشطة التجارية ذات الربح الأسرع وتأجلت الأغراض الحقيقية يومًا بعد يوم.  وعوضًا عن مهام المُحرر والمترجم، صرت فعليًا أعمل كل شيء يخصّ تجهيز تلك الكتيبات والمنشورات الدعائية الملونة حتي  تعود في ربطات من المطبعة فنُسلمها للعميل.  مؤسِسة الدار ومديرتها زميلةٌ من الجامعة سبقتني في التخرج، وافتتحت هذا المشروع بمساعدة من أسرتها.  منحها أبوها المحامي المتقاعد مكتبه هذا، بموقعه المميز في شارع عبد الخالق ثروت.

المديرة غائبة في إحدى المهام، أنا ومصمم الدار فقط في المكتب، الفنان العائد بعد حصوله على الماجستير من روسيا “عمر الفيومي”، أقف لديه في غرفة الرسم، وهي شرفة يحيطها الزجاج استحالت مقصورةً وورشة عمل، أنظر من حاجز الشرفة اتأمل الشارع في الأسفل، وهو في الجوار مُنحنيًا على طاولة الرسم وفي يده فرشاة ألوان أكريليك متوسطة الحجم، يعالج لوحةً باللون الأصفر. أذكر اللون جيدًا، وستعرف لماذا بعد قليل. سمعت آذان العصر يترامى من جامع “كخيا” القريب. قلتُ لعُمَر بضجر وبدون مناسبة “الساعة بقت تلاتة!” كان أمامنا ساعتين وينتهي الدوام. رد عُمر بضجر مماثل “ما هي كلّ يوم زي دلوقت بتبقى تلاتة”… كان هناك صمت غامض في الجو، خمّنت أنها لحظات الغمغمة والهمهمات التي تسبق إقامة الصلاة التي ترتج لها ميكروفونات الجوامع.  غادرت الشرفة إلى الداخل، وما إن جلستُ على مكتبي حتى شعرت بالبناية القوية الراسخة ترتج رجّات قوية ثم تتراقص بعنف في الهواء. أدركت من فوري أنّه زلزال، وإنْ لم أكن مررت بخبرة مماثلة قطّ. كان تأثير الهزّة في الدور الثامن مُرعبًا. وجدت عمر أمامي يقول “زلزال!” كنا مرتبكَين نفكر في كيفية التصرّف وثواني التردد استطالت دهرًا من الرعب والزلزال لا يتوقف، حتى سقطت مزهريتان فخاريتان كانتا فوق رفّ مرتفع في الطرقة الجانبية وتهشمتا على الأرضية. سمعنا تهشم المزهريتين على الأرض ولم نره. أوحى صوت تحطمهما بالتصدعات والانهيارات الكبيرة فحُسِمَ التردد، ووجدنا نفسينا نقفز سلالم الطوابق الثمانية قفزات مذعورة تأكل أربع وخمس درجات في الوثبة الواحدة. عند الطابق الثالث، حيث مكاتب فرع شركة المقاولين العرب، اصطدمنا بالموظّفين، وكانوا قد فرشوا سجاجيد الصلاة ليصلّوا  العصر جماعةً على البسطة أمام أبواب المصاعد، فشتت الهلع جماعتهم، ووقف الإمام الذي لم يكن سوى عم أحمد بواب العمارة على مصليته في المقدمة حائرًا يصرخ: “خايفين من الموت ومش خايفين من ربناااااا…” لم يلتفت أحد لوعظه،  وتزاحمنا على الدرجات وسط المصلين الفارين. وفي الشارع كان همّنا الهروب من شارع عبد الخالق نحو مساحة واسعة حتى ننجو إذا تهاوت تلك الأبنية الثقيلة. لم نتوقف حتى صرنا في منتصف ميدان الأوبرا بجوار تمثال إبراهيم باشا، وعندما تيقننا من النجاة.  قال لي عمر: “بصّ!” وأشار بفرشاة الرسم  التي لا تزال في يده وعلى شعيراتها بقعة ثقيلة من اللون الأصفر!

لم نعد إلى المكتب أنا وعمر، بعد أن هدأت الأجواء،  وانصرف كلّ منا ليطمئن على ناسه. اتصلتُ بأسرتي من تليفون مقهى “ركس” القريب في شارع عماد الدين، وعرفت من أبي أنّهم جميعًا بخير! قال إن الكثيرين فروا من البيوت بملابس النوم  والبعض بملابسه الداخلية. داهم الزلزال أبي وهو خالد لقيلولته المقدسة بعد الغداء.  هو أمي وأخوتي بخير…  أغلقت الخطّ مع أبي وذهبت إلى ركني المفضّل في المقهى. وجدت هدى جالسةً. قالت كنتُ أعرف أنك ستجيء إلى هنا… جلسنا نستوعب الصدمة، ونشرب القهوة، ونتكلم عن الخبرة المفزعة. هي قادمةٌ من الجامعة. حدثت هناك حالة من الهرج لم تحتملها، فأخَذَت تاكسي وفرّت إلى وسط البلد، وها قد وجدتني. إن هي إلا دقائق حتى ظهر حسين وكان يضحك بلا توقف. قصَّ كلٌّ منّا خبرته مع الهِزّة وكيف استقبلها. حكيت عن مُصلّيي المقاولين العرب. وحكى حسين عن زوجة أبيه  الأولى العجوز التي يُقيم معها حاليًا في بولاق بعيدًا عن بيت أبيه في حلوان. قال إن السيدة كانت تصيح به: الحقنا يا حسين… اعمل حاجة” وهو استغرقته هيستيريا من الضحك لا يعرف لها سببا. ما أشعل غضب العجوز. وانتهت الهزّة وهما على موقفهما، هو يضحك وهي تعجب غاضبة من ضحكه، حتى ثارت وطردته من البيت. “امشي يا خول يابن الكلب من هنا” وازداد ضحكه وتواصل حتى جاء به من بولاق إلى المقهى. وقال إنه سمع في الطريق عن انهيارات كثيرة حدثت في منطقة أبي العلاء ورملة بولاق لكنه لم ير شيئا. ثم دخل فجأة علينا فودة مرتعبا، يرتدي سُترة خريفية خفيفة، وقد رفع ياقتها فوق رأسه كمن يحميه من مطر أو غبار متساقط.  يسكن فودة بيتًا قديما يقع عند تلاقي أحياء السيدة زينب والخليفة وطولون، منطقة يسميها اختصارًا الحلمية. قال إنه لم يشعر بالهزة لأنّه في الطابق الأرضي، لكنه شاهد من النافذة مئذنة جامع أزبك، المقابل لبيته، تتراقص  في الهواء. المئذنة عمرها 500 عام قضتها راسخة فوق المسجد الذي شيده الأمير أزبك اليوسفي الضابط العظيم في عهد السلطان قايتباي. المئذنة كانت تتراقص كشجرة تهزّها الرياح. وبعد الثواني الطويلة التي استغرقها الزلزال. رأي فودة المئذنةَ استقرّت في وضع مائل كبرج بيزا الإيطالي ولكنها تنحني للأمام تجاه بيته يفصل بينهما نهر الطريق، وهو أقرب لزقاق منه لشارع. فودة يعاني في الأصل من وجسٍ نفسي حاد، تُهاجمه المخاوف والقلق المرضي في حياته اليومية دون أسباب تستحق. رأى انهيارًا مملوكيًا عظيمًا يهيل على رأسه أحجارًا ضخمة وقطعًا من المُقرنصات المنحوتة وسيوفًا وأمراء وسلاطين وخاصكيات وخشداشيات وطبلخانات تسقط فوق فراشه وهو نائم. ارتدى ملابسه، وقطع المسافة من طولون إلى شارع عماد الدين ركضًا، والسترة فوق رأسه تحميه من تهاوي غبار وحطام وهمي.

ساد الصمت بعد حكاية فودة، وبدأنا نسمع أخبار الانهيارات التي حدثت في أحياء القاهرة القديمة يبثّها تلفزيون المقهى، فيزداد فودة هلعًا وينكمش تحت سترته التي كانت لا تزال تُغطي رأسه. المذيع كان يتابع الخسائر عبر المدينة،  ثم جاء خبرٌ مدو عن انهيار برج حديث من اربعة عشر طابقًا على جميع من فيه، بجوار نادي الشمس في مصر الجديدة.

هبط ليل أكتوبر المبكر الذي يذكّر بزمن الالتزامات المدرسية، وبدا دخول الظلام سببًا لتزايد قلق فودة الذي يخشى سقوط المئذنة على بيته، ولا بد أن عمق الليل، أثناء نومه، سيكون أنسب موعد لهكذا انهيار. اقترحتُ أن نذهب معه إلى  هناك لنرى الوضع عن قرب،  ونرى ردود أفعال باقي السكان، وكيف سيتصرفون.  قالت هدى إنها لا ترغبُ في العودة إلى بيت أهلها وتود لو تأتي معنا، ولكنها لن تستطيع في مثل هذه الظروف ولا بد أن ترجعَ قبل أن يتأخر الليل. شعرتُ أن عدم الرغبة في الرجوع إلى البيت يجمعنا كلنا فضلًا عن فودة وهدى، فهناك حسين الحائر بين حلوان وبولاق، وأنا، ماذا عنّي؟! لنذهب مع فودة الآن لنرى الوضع عنده. كان ثمة أتوبيس من العتبة إلى القلعة ركبناه أنا وحسين وفودة وهبطنا عند كراكون الخليفة، وانحدرنا في شارع الصليبة حتى جامعي طولون وصرغتمش ثم انحرفنا يمينا في شارع أزبك، فوجدنا المئذنة سامقةً كما كانت، ولم نتبين في الليل ذلك الميل الذي تحدثّ عنه فودة. طوال الطريق، كنت وحسين نحاول تهدئة روعه ونحافظ على مظهره ونحول دون تمسكه بالسترة فوق رأسه، فيبقيها في وضعها الطبيعي لحظات، ثم سرعان ما يحاول أن يرفعها مرة أخرى ليصدَّ تساقط التاريخ….

كان مثل  هذا الوقت في عهد السلطان الأشرف قايتباي، حين بُني هذا المسجد ومئذنته هو التوهج الأخير  لسلطنة المماليك الجراكسة، عصرًا مليئًا بعظائم الأمور والعجائب والمتناقضات. ومنها  أن ضربت سيول الحرم المكي، فبلغت المياه الحجر الأسود كما قيل، وكان الحجاز  تحت  الحكم المصري. ومنها أن تعرَّض السلطان في القاهرة بجلال قدره لعملية نصب من شاب من طبقة التجار المصرية يُقال له محمد المرجوشي، ادّعى أنّه من العالمين بأسرار الكيمياء، فأثار ذلك أطماع قايتباي، وقال في نفسه “قد يستحيل التراب ذهبًا!”، وأنفق أمولًا طائلة على تجارب للمرجوشي باءت كلها بالفشل. فأمر السلطان بفقئ عينيه وقطع لسانه عقابًا له على ذلك التعالم والتبديد. وظهر بأسوان، بحسب ثقاة أخبروا المؤرخ ابن إياس، رجلٌ أسود بعين وحيدة وسط جبهته، وظهرت بالقاهرة امرأة لها ثلاثة أبزاز، أحدها تحت إبطها، فكانا من جملة العجائب. وكان الطاعون يتفشّى في البلاد بشكل متكرر، يحصد عشرات الآلاف من عامّة الشعب وصفوة المماليك. وخاضت جيوش السلطنة حروبًا ضروس ضد قوات العثمانيين، والتي أسكرها فتح القسطنطينية، فأخذت تتمدد في التخوم الشمالية لدولة المماليك، وأُرسلت الحملات حتى حلب الشام وإيغالا في الأناضول لصدّ بني عثمان وتأديب مواليهم التركمان؛ إضافة إلى حملات أصغر ضد العُربان في الداخل المصري بأقاليم البحيرة والفيوم. فأرهق قايتباي المصريين بضرائب باهظة لتدبير نفقات حملاته، ولسدّ مطامع المماليك من البيوت الأخرى وأولئك المجلوبين حديثُا، ولمواجهة آثار الأوبئة المتعاقبة، فبات الناس في كربٍ وضيق من العيش، وتغنّوا بمواويل الظُلم والضيم. 

نعرف أنّ صديقنا فودة ذو طبيعة خاصة، ونتقبله على علّاته ونحاول تيسير أوقاته ما استطعنا. وقفنا معه أمام بيته أنا وحسين، وتكلّمنا مع بعض الجيران والمارّة. وكانت أجواء الحدث الجلل التي تذيب المسافات بين الأغراب سائدةً في المكان. وسمعنا من الناس عن انهيارت كثيرة بالجوار في منطقة الدرب الأحمر . أدخلنا فودة إلى شقته، فوجد كل شيء على وضعه، وطمأنته قليلا سيرورة الحياة بشكل طبيعي في الحارة على الرغم من جو الكارثة والترقب التالي لها. الأحاديث الصغيرة مع الجيران ومشهد مخبز العيش البلدي المجاور يعمل باعتيادية ويبيع الأرغفة ساخنة أعادوه إلى المستوى الواقعي من الحدث فتعالى قليلا عن المستوى الكابوسي. شربنا معه دورا من الشاي ضبط دفؤه ارتعادات فودة، وبدا أهدأ كثيرًا عما كانه في المقهى وطوال الطريق إلى بيته. تذكرتُ أنه كان لدي موعد في المساء مع صديقي هشام لندخل فيلمًا في سينما “التحرير” في الدقي، وكنتُ مقررا أن أعود إلى بيتنا في المعادي بعد العمل ثم ننزل معًا من هناك في سيارته ليلا عندما تروق الطرق. هاتفته من بيت فودة لأرى إن كان الموعد قائمًا بعد كلّ ما حدث في النهار.  ردّ هشام، وحكى لي أن الهَزة داهمتهم أثناء حضورهم لعملية إزالة حصوة كلوية في درس الجراحة بقصر العيني. هرب هشام إلى الفناء مع معظم الطلبة وطاقم التمريض وبقي الأستاذ متماسكًا بمساعد واحد يُكمل الجراحة. قال هشام إن الموعد لا يزال قائمًا فمشاهدة هذا الفيلم بالذات،  واليوم تحديدًا فرصة لن تتكرر، اتفقنا على أن نلتقي أمام سينما التحرير في التاسعة كنتُ لا أزال أشعرُ بعدم  الرغبة في الرجوع إلى البيت.  كانت ساعة الحائط المستديرة في صالة شقة فودة تشير إلى السابعة. كلّ هذا ولا نزال في السابعة! قرر حسين أن يذهب معي إلى السينما ليرى الفيلم، ويعود معنا إلى المعادي بعده ومنها إلى بيت أبيه في حلوان، فهو أرحم له من زوجة أبيه الغاضبة في بولاق. قررنا أن نسير من بيت فودة حتى ميدان التحرير ثم لنركب شيئًا من هناك إلى الدقي. لا يزال هناك متسع من الوقت.

خرجنا أنا وحسين، وسرنا في شارع مراسينا حتى ميدان السيدة زينب. كانت هناك تجمعات من الأهالي في بقاع متناثرة من الميدان، يحملون متاعًا يتجمهرون حول باصات صغيرة وسيارات نقل حكومية، مشحونة صناديقها بمزيد من المتاع ؛  وبالسؤال عرفنا أنّهم من أهالي الدرب الأحمر الذين تهاوت بيوتهم، وهم الآن بصدد النقل إلى معسكرات الإيواء في منطقة تلال زينهم. ومن ميدان السيدة انحرفنا يسارًا في شارع المبتديان، ثم يميناً في شارع قصر العيني حتى بلغنا ميدان التحرير، ورأينا نفس الحلقات المتجمهرة حول حافلات وشاحنات مماثلة لتلك التي رأيناها في السيدة زينب، وعرفنا أن هؤلاء ضحايا الزلزال في حيّ بولاق. عند مبنى جامعة الدول العربية أخذنا تاكسي قطع كوبري قصر النيل نحو الدقي. أقُنع نفسي أنّ ما حدث انتهى عند هذا الحدّ. سنُكمل الحياة بشكل اعتيادي. مات وتشرد العشرات، بل مئات كما سمعنا. لكن لا أحد أعرفه حتى الآن قد أُضير، وهي تعويذة الإنكار الأساسية في مواجهة الكوارث. مؤخرة جحا التي سَلِمَت من الانتهاك، آلية تنصل نفسي مخادعة تحاكي الإعلاء لكن بتواطؤ مع الذات أكثر إغراضًا. وجدنا هشام وطارق بجوار سيارة الأول الـ 131 البيضاء أمام سينما التحرير. سلّمنا عليهم وقطعنا التذاكر ووقفنا ننتظر الدخول. سألت هشام عن تصميمه على دخول الفيلم هذه الليلة بالذات. قال هشام العالم ببواطن الأمور إنني لم أنتبه للرابط بين عنوان الفيلم “غزو الفردوس” وتاريخ اليوم، 12 أكتوبر 1992، هو ذكرى مرور خمسمائة عام على وصول كريستوفر كولومبس إلى الأراضي الأمريكية! وقال إنّ الفيلم من انتاج فرنسي ولمخرج إنجليزي متميز هو ريدلي سكوت، وقد صوّر في مواقع حقيقية بمعالم ذاك الزمان. ويأمل أن نرى رواية مختلفةً عمّا جرى من الأوروبيين بحقّ السكان الأصليين في الأراضي الأمريكية.

 سينما التحرير، وهي  أحدث دار عرض في القاهرة، أحدثت نقلةً في طقس المشاهدة بعيدًا عن دور السينما القديمة في منطقتي قصر النيل والأزبكية، مترو وميامي وريفولي وديانا وشقيقاتها. كانت “التحرير” مزودةً بأجهزة عرض تعمل بنظام تنقية الصوت (دولبي إن آر) .  في قاعات العرض القديمة، كنّا  من رداءة الأجهزة وتقادمها لا نميِّز ما ينطقه الممثلون، فتُسمَع الحوارات في الأفلام العربية أكثر استغلاقًا علينا من الأجنبية حيث لا ترجمة نقرأها أسفل الشاشة، وعلينا أن نُخمِّن ما يقوله الممثلون بـ “الشبه” ومن حركة الشفتين. فيلم اليوم أوروبي لكن وزعته هوليوود عبر شركة “باراماونت” في أنحاء العالم.  وللمرّة الأولى، حدَّ علمنا، يُعرض فيلمًا في القاهرة في نفس لحظة عرضه في كل عواصم العالم الكبيرة، وفي  تاريخ موافق ليوم الحدث الذي يحكي عنه الفيلم. تصلُ الأفلام الأجنبية حتى ذاك الوقت إلى  القاهرة بعد عرضها الأول في أمريكا وأوروبا بأسابيع أو شهور. وبينما قام الممثل الفرنسي غليظ الملامح جيرار دي بارديو بدور كولومبوس، قامت الممثلة الأمريكية القديرة سيجورني ويفر بدور إيزابيلا الكاثوليكية ملكة قشتالة وليون، والتي كانت قد انتصرت لتوّها على أبي عبد الله الصغير سلطان غرناطة، واستولت على آخر معاقل المسلمين في الأندلس. وفي زهوة انتصارها، وبعد أن بسطت نفوذ قشتالة على عموم الأراضي الإسبانية، وافقت على تمويل الحملة الاستكشافية لذلك المُغامر الإيطالي.

عندم أحكمت إيزابيلا وزوجُها ملك أراغون الحصار حول غرناطة أرسل بنو الأحمر مبعوثًا إلى الأشرف قايتباي في القاهرة، وهو أحد أقوى ملوك المسلمين وقتها، يستنصرونه ضد هجمات صليبييّ قشتالة وأراغون. استخدم قايتباي معهم حكمة “ما يعوزه البيت يحرُم على الجامع”، فبعد أن شاور أمراءه تبيَّن صعوبة إرسال تجريدة عن طريق بحر الروم طوال هذه المسافة  إلى الديار الأندلسية، لا سيما في ظل إرهاق ميزانية الدولة بسبب الخطوب والحروب، وكانت استجابته لطلب الغوث، مجرد رسالةً بعثها إلى بطرق روما يهدّده بأن مصر سوف تغلق بيت المقدس أمام الحجيج المسيحية في حال مواصلة صليبيي إسبانيا هجومهم على غرناطة، لكن ذلك لم ينفع في شيء؛  وكما لم يستجب قايتباي، لم يستجب غريمه سلطان العثمانيين با يزيد الثاني ابن محمد الفاتح لطلب بني الأحمر. وعلى الرغم من تلك الظروف المُضطربة، أقام قايتباي في تلك الأيام مهرجانًا باذخًا للاحتفالا بختان ولده، وختن معه ابن السلطان عبد العزيز خليفة بني عباس  في المنفى وعشرات من أطفال الوجهاء. وتلقى السلطان نُقوطًا عينيًا ونقديًا للمناسبة من كبار المماليك وأعيان المصريين قُدر بألوف مؤلفة، ودام الاحتفال في شوارع العاصمة سبعة أيام استبد فيها المجون بالجمهور، خاصةً لتغيب العسكر عن المدينة تعبئةً في الحملة  الكبرى على إقليم حلب والتي خرج بها أزبك الأتابكي الذي كان بمثابة وزير دفاع قايتباي، وهو غير أزبك اليوسفي صاحب المئذنة القائمة إلى يومنا هذا أمام بيت فودة، والذي شغل لفترة منصب رأس نوبة النوب في نفس الإدارة. وعندما سقطت غرناطة بالفعل في يد الكاثوليك، في يناير 1492ربيع أول عام 897، كان السلطان قايتباي يقيم الاحتفالات الباذخة في شوارع القاهرة احتفالاً بالمولد النبوي. ثم  التهى الناس بأخبار موجة جديدة من الطاعون قادمة من الشمال، وقيل إنّ رجلًا رأي النبي في منامه وقال له: “إن الطاعون كان واقعًا عليكم  فشفعتُ فيكم عند ربي، فقل للناس يصوموا سبعة أيام متوالية” فصام الكثير من الناس الأيام السبعة ولكن ذلك لم يفد في شيء، بحسب زين العابدين أبي البركات،  ووقع الطاعون في الديار المصرية،  وكانت الموجة الثالثة  للوباء في مدة قايتباي، وقد أماتت مائتي ألف نفس ومن ضمنهم ابنة شابة للسلطان نفسه وأمها من جواريه المحظيات فشيعتا معا. ولم تصل أخبار سقوط غرناطة إلى القاهرة إلا في شهر شعبان/ يونيو، أي بعد ستة أشهر من اعتلاء الصليب الفضي للملك فرديناند زوج إيزابيلا سقف قصر الحمراء، تزامنًا مع تراجع الطاعون عن القاهرة وزحفه جنوبًا نحو الصعيد.

وبينما نتابع الفيلم  الذي يُعرض بنفس اللحظة في كلّ عواصم العالم، حدثت هزةٌ أرضية أخرى من توابع زلزال الظهيرة لكن أحدًا لم ينتبه لها، وضاعت ذبذباتها وسط المؤثرات الصوتية للفيلم والتي نجحت أجهزة الصوت المتطورة في نقلها. لم يكن للفيلم أية أهمية فنّية بالنسبة لنا ولم يضف شيئا لمخرجه ريدلي سكوت،  فقط كان لنا شرف مشاهدته في الموعد والتوقيت المتزامنين بعرض العالم وطول التاريخ.

بعد الفيلم قال طارق  إنّه سيختم لنا اليوم بفقرة أخيرة تكسر كآبة الزلزال وغثاثة الفيلم الذي شاهدناه. لم نفهم. فقال طارق إننا سنذهب الآن إلى بيته حيث تنتظرنا مفاجأة لن نندم علىها.  ركبنا نحن الأربعة في سيارة هشام، وانطلقنا نحو المعادي.  يعمل والدا طارق في السعودية وهو يدرس هندسة الديكور ويقيم وحيدًا في شقته بمنطقة صقر قريش على أطراف المعادي الشرقية. وشقة طارق متسعة نسبيا من ثلاث غرف وصالة كبيرة، وتبدو أكثر اتساعًا لأنها خالية من الأثاث سوى فرش صغير على الأرض ينام عليه في إحدى الغرف، وطاولة رسم مرتفعة في غرفة أخرى، وجهاز ستريو  أكاي من ثلات قطع وبمكبري صوت كبيرين من الخشب الأسود في ركنين من الصالة متواجهين بشكل قُطري، وثمة حشيات على الأرضية للجلوس، ولا شيء كامل التأثيث والتجهيز غير المطبخ بثلاجته وموقده، والحمّام بغسالته ومناشفه. صنع لنا طارق دورًا من الشاي، بعد أن جلسنا، ثم دخل إلى الغرفة التي بها طاولة الرسم وعاد باسطوانه مدمجة وأشهرها في وجوهنا وقال: هذه هي المفاجأة! كانت الاسطوانة هي ألبوم

Amused to Death

أحدث إصدارات روچر ووترز، قائد فريق پينك فلويد السابق ومؤسسه، والذي انفصل عن الفريق رسميًا منذ نحو عشر سنوات. كان هذا هو ثالث ألبوماته في مسيرة عمله منفردًا، وقد سمعنا أخبارًا عن صدوره قبل أسابيع فقط في إذاعة البي بي سي.  قال طارق إن ابن عمته كان عائدًا من أمريكا الأسبوع الماضي فطلب منه أن يجيء به معه. آخذ العلبة البلاستيكية المربعة للاسطوانه وأجلس على إحدى الحشيات أتصفّح غلافها والمطوية المرفقة، أقرأ أسماء الموسيقيين المشاركين وكلمات الأغاني. أعرف أن مفهوم الألبوم يتمحور حول هجاء “مجتمع الفرجة”، و البشر الذين امتصتهم شاشات التلفزيون يتحلّقون حولها يشاهدون الحروب والمجازر كما يشاهدون مباريات الكرة، ومجتمعات التخمة في مواجهة مجتمعات الفاقة. منذ أعماله الأولى مع پينك فلويد  كان ووترز شديد الانتقاد لعالم الاستعراض، والاستعادة السريعة لحركة الروك آند رول كموسيقى ثورية من قِبَل ماكينة الرأسمالية العملاقة.  لأن اللعبة معروفة، وهو قد صرح باسمها في البوم

Wish You Were Here

  حين كتب: “هل أخبرناك باسم اللعبة يا حبيبي.. نُسميها (ركوب قطار البهاريز)

Riding The Gravy Train

. أي حيازة الثروة الطائلة مقابل أقل مجهود ممكن.  فطنّ لها منذ توليه قيادة الفريق في 1968 خلفًا لصديقه سيد باريت الذي ضربه الجنون، ومع بداية الانتشار التجاري للفريق، والرحلات الطويلة من انجلترا إلى الولايات المتحدة في جولات موسيقية مكوكية، بعد الانتشار الكاسح في أوروبا. ..  ولكن ما إن تدور عجلة الثروة، فلا فكاك منها ولا تراجع، ولا لووترز نفسه. يقارب الألبوم أيضًا موضوع حرب الخليج  أو عملية عاصفة الصحراء 1991، التي كانت أول حرب متلفزة في التاريخ، لدرجة أن مفكرًا فرنسيًا من حجم بودريار اعتبرها لم تحدث في الواقع. كانت موسيقى الروك آند رول في مراهقتنا بالمعادي بالنسبة لنا ايديولوجيا للرفض، في مواجهة قيم العائلة التي كانت قد عرفت طريقها إلى التفسخ، وضد صرامة المنظومة التعليمية الفاسدة، وكل حسب فهمه. ووترز كان أحد أبطالنا طوال تلك الحقبة من نهاية الثمانينيات وبدايات التسعينيات.، وهذا كان إصداره الأخير. كان عالم الروك القديم نفسه آخذ في الاختفاء لصالح خارطة موسيقية جديدة، بزغت من تجارب الأجيال التالية وتبدلات نمط الانتاج. بقى للأبطال القدامي من أمثاله الجولات الموسيقية الطويلة؛  وإن ضعفت الصحة وتعبت الحناجر ولم تعد حمل مثل تلك الرحلات المكوكية وتكرار الحفلة نفسها في مدينة مختلفة،  يوم وراء الآخر.

في الألبوم الجديد عوّض ووترز غياب رفاق فلويد القدامى بعازفين  بارزين ممن يعملون بشكل احترافي مع مؤلفين موسيقيين مختلفين. هنا باتريك ليونارد عازف الكي بوردز والموسيقي والمؤلف المعروف بتعاونه الطويل مع نجمة البوب مادونا؛ وهنا چيف بك صوليست الجيتار المصنّف ضمن المائة الأفضل،  وجراهام برود الدرامر الحاذق المنضبط، وآندي فيروذر لو  عازف الجيتار مُتعدد المهام والأساليب. هؤلاء الأربعة، الأشهر بين طاقم الموسيقيين المشارك في الألبوم، هم ضمن شبكة من العازفين المحترفين تعمل بشكل متقاطع مع أسماء كبيرة في عالم الروك والبوب كإريك كلابتون وتينا تيرنر وفان موريسون وآخرين. الاثنان الأخيران بالذات، برود وفيروذر لو  صارا من الفريق الأساسي المصاحب لووترز منذ  ألبومه الثاني المنفرد  ويبدو اعتماده كبيرًا في الحفلات على فيرويذر لو كعازف جيتار متعدد المهام، فهو بالأساس يتولى الريذم جيتار، يضبط المسارات للفريق بأكمله، ويعزف الباص أحيانًا بدلا من ووترز متى لزم ذلك، ويعزف الصولوهات بشكل شرفي حتى في حضور صوليستات كبار كإريك كلابتون أو  جيف بِك أو سنووي وايت، ويبدو في العروض الأخيرة  لووترز وكأنّه عمود فقري متوار في ظلّ العقل الرئيس للفريق..

سُجّل الألبوم بنظام صوتي ثلاثي الأبعاد مستحدث وقتها يُعرف بـ  كيو ساوند. وكانت تجربة الاستماع في شقة طارق شبه الفارغة على مكبرات أكاي الكبيرة المتواجهة خبرةٌ تنقل كل الشذرات الصوتية التي يُدمجها ووترز في نصه المسموع، من جمل حوارية بلغات ولهجات عديدة (من بينها اللهجة المصرية هنا، في جملة تبدو من فيلم مصري قديم وبصوت قد يكون للمثل عبد المنعم مدبولي؟) إضافة للمؤثرات وطبقات الموسيقى المتراكبة، بحيث بدت كلها كأنها تـُبَثُ مجسمةً من أركان الشقة نفسها ، لا صادرة من السماعتين الكبيرتين فحسب، وكما لو كانت هناك سماعات أخرى متناهية الصغر مزروعة في أماكن مختلفة من فضاء البيت تصدر كل منها صوتًا منفصلا من الأصوات المدمجة في التراك ليعاد تجميعها جميعًا في بؤرة واحدة بوعي المستمع. 

يبدأ  الألبوم وينتهي بصوت رجل مسنّ يتكلم فيما يشبه مونولوج عن ذكرى قديمة من زمن الحرب العالمية الأولى. يبدأ  حكايته في التراك الأول المعنون بـ  “أنشودة بيل هابارد” وينهيها في التراك الأخير الذي يحمل الألبوم نفسه عنوانه أو “التسلية حدّ الموت” .  الراوي هو آلف  رازل أو “راز”  محارب بريطاني قديم. يحكي قصته مع  بيل هابارد،  أحد ضحايا الحرب ورفيقه في الكتيبة نفسها.  الرواية الصوتية مأخوذةٌ من فيلم تسجيلي من انتاج هيئة الإذاعة البريطانية عام  1990 بعنوان “لعبة أشباح” عن ذاكرة الباقين قيد الحياة من جنود الحرب العالمية الأولى.  بنى ووترز في التراك الأول “الأغنية” على الجزء الأكبر من حكاية رازل عن زميله الشهيد كما يتذكرها من أرض المعركة، ثم يختتم الألبوم والأغنية الأخيرة بتتمة الحكاية في الزمن المعاصر وهو يحكي عن تأثره واستعادته للحدث كاملا عندما رأى اسم هابارد محفورًا على نصب تذكاري لضحايا الحرب. كان الراوي في الثالثة والتسعين وقت تسجيل ذلك اللقاء معه.  مونولوج العرّيف  آلف رازل صار كلام الأنشودة، تُصاحبه خلفية موسيقية من أورغون طقسي وتوقيع على طبول وضعهما باتريك ليونارد فيما الخطّ الرئيسي صولو للجيتار يلعبه چيف بك بريشة فائقة، نغمة تذكّر بتيمات الموسيقي إينيو موريكوني الشهيرة في أفلام الويسترن سباجيتي.

أنشودة بيل هابارد

“أكثر أمرين تسلّطا عليّ من تلك الأيام، عندما كُلِفتُ بجمع دفاتر رواتب الجنود القتلى، وعندما تركت بيل هابارد في المنطقة المحايدة خلف خطوط الألمان. أخذوني إلى خنادقهم، وما إن خطوت خطوتين أو ثلاث هابطًا الخندق حتى سمعت صوتًا: “هالو راز كم أنا مسرور لرؤيتك. هذه ليلتي الثانية هنا” وقال: “أنا في وضع سيء” . لقد كان بيل هابارد. أحد الرجال الذي قمنا بتدريبهم في إنجلترا، من الكتيبة الأساسية.  قلّبت جسده، وتفحّصت جروحه، ووجدتها إصابات مميتة غالبًا. تستطيع أن تتخيل مدى ألمه، كان يقطر عرقًا، وبعد أن أحصيت نحو ثلاثة ثقوب لمقذوفات، تجاوزت هذا… ولو كان هناك طريق أو ممر لكنتَ تصرَّفت بشكل أفضل. أخذ يلحُّ عليّ: “ضعني أرضًا، ضعني أرضًا، ، أفضلّ أن أموت، ضعني أرضًا”. كنتُ آمل لو يُغشى عليه. قال: “لا أستطيع أن أمضي أبعد من هذا، دعني أموت”. قلتُ : “لو تركتك هنا يا بيل فلن يعثروا عليك، دعنا نحاول ثانية” فقال “طيب!”. وحدث الأمر نفسه، لم يعد يتحمل، واضطررت لتركه هناك… في المنطقة المحايدة…”

 تلك الافتتاحية  بمونولوج عن الحرب العالمية الأولى مع التيمة  الموسيقية التي تذكّر بموريكوني،  توحي أننا بصدد  التفرّج على أحداث القرن العشرين تتداعى كـ “فيلم كاوبوي طويل” .  لم يستدع ووترز هنا الحرب العالمية الثانية، موضوعه الأثير،  والتي فتح عينيه على العالم عام 1943وهي  مشتعلةً، وفقد وهو رضيع أباه في أحد معاركها. هذه المرة، وعند نهاية القرن العشرين، استدعى الحرب الأولى، بداية القرن الحقيقية، حين دُشّنت نظرية الموت المنهمر من السماء والذي يدرككم ولو كنتم في بروج مشيدة.  و”قد شيدوا معامل الظلام الشيطانية التي صنَّعت الجحيم على الأرض” كما قال في أغنية

Watching T.V .

 ربما يبدو الجمع بين ووترز وموريكوني في جملة واحدة غريبًا، وكلّ منهما ينتمي لعالم موسيقي مختلف عن عالم الآخر، لكننا سنجدهما  قد تعاونا معًا  بعد ذلك بست سنوات في أغنية ظهرت بفيلم  “أسطورة 1900” للمخرج الإيطالي چوسيبي تورناتوري عام 1998. كلمة السرّ التي جمعت هذين الاسمين ليست سوى باتريك ليونارد نفسه، الذي كان

producer

لهذه الأغنية، وبروديوسر في هذا السياق لا تعني الترجمة الدارجة للكلمة بـ “منتج”، فهو هنا لا يموّل العمل، فالانتاج بذاك المعنى  تتولاه شركات كبيرة، كسوني ميوزيك وتباطنها شركات أصغر  كـ “روچر ووترز ميوزيك” مثلا؛ ولكن مهمة البروديوسر هنا هو التصميم الموسيقي والمفاهيمي لعمل ما، وأفضل ترجمة لهذه الوظيفة تلك التي اقترحها الكاتب اللبناني  فادي العبد الله وهي “مُخرِج موسيقي”.  وفي ألبوم “التسلية حد الموت”  يظهر اسم ليونارد كمخرج موسيقي مشارك مع روچر ووترز.  وبإمكاننا أن نعتبر ليونارد تلميذًا مباشرًا للأخير، فهو يصغره بنحو 12 سنة، وقد صرَّح ذات مرة أنّه “نشأ على موسيقى پينك فلويد وجيثرو تَل، ولكنه اضطُرّ  للانجراف في سكة البوب التجاري  من أجل إطعام  أطفاله”، وتصادف أنّه “عمل مع فتاة صغيرة حققت نجاحا عالميا غير متوقع”، في إشارة إلى شراكته الفنية  مع مادونا.

 وتذكّر آلية اقتباس مونولوج آلف رازل من الفيلم التلفزيوني بآلية “الاختطاف” التي استخدمها كُتاب الحركة المواقفية مع عبارات من نصوص كلاسيكية، أو من نصوص مناوئة إيديولوجيًا، لإبطالها أو تدوير معناها في سياق مختلف. الاختطاف من عالم التلفزيون لنقض خطاب التلفزيون.  والمواقفيون هم  أصحاب النقد الأكثر جذرية لـ “مجتمع الاستعراض” والفرجة في نهايات القرن العشرين، ولكن ووترز لا يستند إلى  تنظيراتهم  في بنائه لمفهوم الألبوم، إنّما لأفكار الأكاديمي التربوي الأمريكي نيل بوستمان، الذي وضع كتابًا عام 1984 بعنوان ” نُسلّي أنفسنا حدّ الموت – الخطاب الجماهيري في عصر الشو بيزنس”  وواضح استلهام عنوان الكتاب نفسه عنوانًا للألبوم.  ولكن لا يبدو أن هناك ما يجمع  بين تربوي أكاديمي أمريكي والمواقفيين سوى كراهية وسائل الإعلام. ساهم ألبوم ووترز في إعادة التعريف ببوستمان وفي انتعاش مبيعات كتابه المذكور على مستوى عالمي، بعد أن تُرجِمَ لنحو عشر لغات.  علّق بوستمان نفسه على هذا في  كتاب تالٍ له، بالنفاجية الأكاديمية المناسبة لتربوي مثله فقال ” لقد رفع أسهمي بين طلبة مرحلة البكالوريوس بحيث صرتُ في وضع يصعب  فيه التنصل منه أو من نوع الموسيقى التي يقدمها وليست لديّ النية لفعل هذا لأي سبب آخر. لكن  الحساسية المطلوبة لتقدير موسيقى روچر ووترز مختلفة وأقل من الحساسية المطلوبة لتقدير مقطوعة لشوپان مثلا”.

يجد الأكاديمي المرموق نفسه في  مكان يسمح له بالمفاضلة بين رومانسية شوپان في القرن 19 والروك آند رول! عادي! ربما لا يُعد ووترز موسيقيًا من طراز فريد، حتى في عالم الروك، وأراه دائما يتميز أكثر بكلمات أغانيه الحادة وروح الدعابة المُرّة، هو شاعرٌ  كبير أكثر منه موسيقي أو عازف. والأدق أن نقول هنا إنه “مُخرج موسيقي” لكنه كان قد جعل الحقل الموسيقي نهايات القرن العشرين يرتج بجملة موسيقية شديدة البساطة وقّعت شعارًا متمردًا تردده جوقة غاضبة من الأطفال: “لا نريد تعليمًا … لانريد تحكما في أفكارنا!”.

ويبقى هذا الاقتباس أو الاختطاف في التراك الأول لمونولوج العرّيف آلف رازل عملأ شعريًا من الطراز الأول.  طلبت إعادة الاستماع إليه عدة مرات بعد أن انتهى الألبوم، وكان فجر الثالث عشر من أكتوبر  تبدو خيوطه  من النافذة.  انتبهت إلى أنني لم آكل شيئا  طوال اليوم.  ونزلت متثاقلا أعود إلى بيتنا، ولم تكن جدرانه – لحسن الحظّ  – قد انهارت في رجّة ما بعد ظهيرة اليوم الفائت، ولكنه كان ككل البيوت التي تشبهه، والتي لا تشبهه،  قد انهار ، وربما من  وقت طويل، في أحلامنا…

خالص مع الشكر 

                                                                                                                               

Published by Sound of Maadi راديو المعادي الحُرّ

مدونة الكاتب المصري ياسر عبد اللطيف الموسيقية، تصدرُ وتٌبثُّ من مقاطعة المعادي الافتراضية

13 thoughts on “يومٌ بخمسمائة عام… الأشرف قايتباي وكولومبوس وروجر ووترز في بروجرام واحد

  1. صباح الفل ،قريت ، واستمتعت والله ، خصوصا و إنه الموضوع تاريخياً وموسيقياً مش من اهتماماتي أو اطلاعاتي ، وكان ممتع ،خاصة مزج الخيالي واجباره انه حصل فعلاً

    Like

  2. ياسر متميّز جدا بهذا الخليط المدهش من الثقافات العربية والغربية في فنون المعمار والموسيقى والأدب مع حنين واضح لشوارع القاهرة وحواريها ومقاهيها رغم
    إقامته في كندا

    Liked by 1 person

  3. رحلة ممتعة وحدوتة منسوجة بحنكة ومزيج عجيب بين التواريخ والاشخاص والقدم والحداثة ووصف اجواء الزلزال جعلتنى اريد وضع السترة على رأسى اسوة بفودة .
    برافو من هنا للبرازيل على المتعة السريعة دى

    Like

  4. عظمة ووه ياسر
    أنا زيك مغرم بشدة بشوارع وأبنية القاهرة، قديمها وجديدها. واستمتعت بشدة بالخلطة المبهرة دى.

    Like

Leave a comment

Design a site like this with WordPress.com
Get started